عرف القرن الحادي والعشرون بعصر العولمة، العصر الذي فيه خصائص السرعة والدقة والنظام والابتكار، عصر التخصص الدقيق، وعصر الرقمية، أوعصر الثورة المعلوماتية أو تقنيات الاتصالات والمعلومات. تكون الكرة الأرضية قرية عالمية صغيرة، إذ يتجول الإنسان عبر الإنترنت حيثما يشاء أن يذهب إليه بدون جواز سفر، فيكسب المعلومات الوفيرة بسرعة فائقة من هذه الآفاق الرحيبة سواء من خلال الإنترنت أو محطات التلفزيون عبر الأقمار الصناعية.
هل نحن المسلمين مجهزون بالعلوم والتقنيات الحديثة والمهارات الفنية العالية حتى لا نتخلف عن ركب الحضارة الحديثة؟ هل قامت وزارات التعليم في البلدان الإسلامية بإعداد مناهج دراسية جديدة لإعداد كوادرها وتخريج خبرائها من ذوي الكفاءات الرفيعة المستوى، حتى يكونوا قادرين على مسايرة التطور الحديث؟
فإن كانت بعض الدول الإسلامية في الشرق الأوسط أو في آسـيا أو بعض المجتمعات الإسلامية في أوربا وأمريكا تسعى نحو مواكبة العصر والتقنيات الحديثة، فلا ينبغي لهذه المجتمعات أن تنبهر ببريق هذا الجديد وتنسلخ عما عندهم من تراث وحضارة وثقافة. إن هويتنا تكمن في تمسكّنا بالإسلام وما في تعاليم القرآن وأحاديث الرسول (ص). إن قصّرنا في الفهم الصحيح لمطالب ديننا الحنيف في الماضي بسبب الاستعمار، فلا حجة لنا إن وجدنا أنفسنا قاصرين في فهم الإسلام الصحيح وتطبيق تعاليمه بعد استقلالنا من الاستعمار. لا عذر لنا إذن ونحن نعيش في ظروف الاستقلال أن تبقى نفوسنا في هزيمة وتراجع. الإسلام الذي يعلو ولا يعلى عليه هو النظام الذي يشمل جوانب الحياة كلها، فهو دولة وحكم، وسياسة واقتصاد، وجيش وفكرة، وثروة وغنى، وعلم وثقافة، وتربية وفن، ودنيا وآخرة، كما هو خلق وعبادة وعقيدة. هذا المفهوم الشامل يتطلب منا إعادة النظر في تصوراتنا للحياة وتصحيح مفاهيمنا للإسلام.
ينبغى لعلماء الأمة ومفكريهم أن ينهضوا ويصححوا المفاهيم الخاطئة نحو الإسلام، سواء في أوساط المسلمين أو غير المسلمين. مازال هناك ناس من الأمة ينظرون إلى أن "العلماء" محصورون في رجال العلوم الشرعية المحضة. وأما المتخصصون والخبراء والمفكرون في العلوم الطبيعية والكونية فهم ليسوا بعلماء. على هذا، يقتصر العمل الإسلامي والتوعية والدعوة على رجال العلوم الشرعية والأصولية فحسب دون مشاركة فئات أخرى من المثقفين المسلمين. فهذا قصور في الفهم والتطبيق للإسلام. إن استمر هذا الوضع الخاطئ في الفهم والتصور تبقى الأمة متخلفة إلى الأبد، ويبقى الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه وتقصير نجبائه. فانتظروا الساعة وترقبوا استعمارا جديدا على البلاد الإسلامية. وفعلا قد وقعت الويلات في الأمة بسبب الجهل والأمية والصراعات والخلافات.
يقول الله تعالى في وصف العلماء في سورة فاطر ( إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ- الآية 28). من هم العلماء الذين تنحصر فيهم صفة الخشية والخوف من الله عز وجل؟ هل هم المتخصصون في العقيدة أو الحلال والحرام فحسب كما يفهمه عوام الناس؟ اقرؤوا الآية وما قبلها. الآيتان تتحدثان عن الظواهر أو الآيات الكونية والطبيعية: السماء، والمطر، والماء، والنبات، والإنسان، والحيوان، والجبل. هذه علوم طبيعية كونية حيوية إنسانية، عن الفضاء والإنسان والحيوان والنبات والجماد، وليس فيها تحديد ضيق لمفهوم العلماء. فمن درس هذه العلوم يكتشف معلومات تثبت قدرات الله وعظيم خلقه وإحكام صنعه. فبها تقشعر الجلود وتخضع الرقاب تعظيما لقدرة الله عز وجل وخوفا من عقابه. فأي علم يورث الخوف من الله والتقرب إليه ويجنبه من معصيته فهو علم نافع، فصاحبه من العلماء. فلماذا حصرنا العلم والعلماء في العلوم الشرعية ورجالها؟
وأورد الدكتور وهبة الزحيلي في التفسير المنير كلاما واضحا في تفسير تلك الآيات قائلا: "إنما يخاف الله بالغيب العالمون به، وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الجميلة، ومنها عظيم قدرته على صنع ما يشاء وفعل ما يريد، فمن كان أعلم بالله، كان أخشاهم له، ومن لم يخش الله فليس بعالم، والمراد به العالم بعلوم الطبيعة والحياة وأسرار الكون". ثم أكد بقوله "إن العلماء بطبيعة الكون ودقائقه، وبصفات الله وأفعاله، هم الذين يخافون قدرته، فمن علم أنه عز وجل قدير أيقن بمعاقبته على المعصية، ومن لم يخش الله فليس بعالم". قال ابن عباس: (العالم بالرحمن من لم يشرك به شيئا، وأحلّ حلاله، وحرّم حرامه، وحفظ وصيته، وأيقن أنه ملاقيه، ومحاسب بعمله). وقال سعيد بن جبير: (الخشية هي التي تحول بينك وبين معصية الله عز وجل). وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة الخشية). وقال مالك: (إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب).
إن الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا قدمت واحدة من التجارب الفريدة في العالم الإسلامي، إذ وضعت في فلسفتها ورؤيتها ورسالتها أن الله سبحانه تعالى مصدر العلم والمعرفة، والإنسان عبد لله وخليفته في الأرض، يقوم برسالة التوحيد وتطبيق أحكامه، وتعمير هذه الأرض بالبحث والتنقيب لغرض سعادة الدارين، فتصبح هناك معارف الوحي أساسا لدراسة سنة الكون من خلال العلوم الإنسانية والطبيعية والتقنية الأخرى. فالتزاوج المعرفي بين العلمين (الوحي والعقل) يخرّج جيلا جديدا مزودا بالمعرفة الإسلامية الصحيحة، والنظرة العالمية الشاملة، ومهارات عصرية عالية من الكفاءات اللغوية والاتصالية والخصائص القيادية، مما يؤهلهم لتوجيه الأمة نحو المسار الصحيح في الصراع الحضاري المعاصر. نعم، نواكب العصر بما فيه من العلوم والثقافات والتقنيات والمهارات، ولكن مع احتفاظنا بما عندنا من معارف الوحي والتراث الصالح والخلق الحسن.
اليوم نرى جيلا جديدا من شباب الأمة أكثر من مائة جنسية يتجمعون في هذه الجامعة الفتية لطلب المعرفة والتقنية الحديثة، وهم متخصصون في مجالات شتى كالطب، والهندسة، والهندسة المعمارية، والاقتصاد، والمحاسبة، والبنوك والتمويل، والعلوم الطبيعية، والقانون، وإدارة الأعمال، وتقنيات الاتصالات والمعلومات، والعلوم الإنسانية، والعلوم الإسلامية المتخصصة، واللغات. فهؤلاء العلماء المهنيون الذين يحملون رسالة الإسلام مع التخصص الدقيق ينعقد عليهم أمل الأمة وخيريتها. إن تجمعت تلك الفئات المتميزة من أصحاب الثقافة التكاملية التي جمعت علوم النقل والعقل معا سيكون هناك تغيير جذري في الأمة نحو تحقيق السلام العالمي والعدالة للإنسانية.
د. عبد الرحمن شـيك
أستاذ مشارك في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا